ويمتلئ قلب المدينة مرةً أخرى بألف ألف عَالم، يتشاركون العطفات والدوائر؛ سيدات مجتمعٍ راقٍ، بشعورهن المُنعّمة المصبوغة باللون الأشقر الداكن، يتسابقن على شراء الذرة المشوية من نواصي الميدان المتفرقة، فلا يطرق بائعوها عادةً تلك الأحياء الراقية التي تنحصر فيها وفقط عوالم تلك الشقراوات المُسنّات. ويهتفن برقةٍ أن "الشعب يريد إسقاط النظام." يحتمين بصدى الصوت المردود من مبنى مجمّع التحرير العريض وكفى.
وعلى الجهة الأخرى المحدبة من صدى المبنى، حول الناصية، يستمر صغار الميدان في منازلة الأمن المركزي بلا تعب، ولن يستغرق الواحد منهم في سيل الغاز المسيل للدموع. لايطلبون المدد ولا يشترون أعلام مصر البلاستيكية ”أم خمسة جنيه“، يخيطون أعلامهم على سير الغاز ولا وقت عندهم للغناء.
وبين هذا وذاك، يلف باعة البطاطا المشوية بدخان شويهم رئة المدينة وقلبها. وترى أباً يتمشى في الميدان بجلبابٍ مُنهكٌ تكوينه، يستمتع بنسيم المدينة المجاني يداعب قسمات جلبابه الواسع، وفي بسطةٍ متأنية، يُسكِنُ ملامح الميدان اليومية على صفحة عينيه المحمرتين المتعبتينِ. يرخي ذراعه على كتف ابنه، ابن ال١٢ عاماً ذا الوجه المتحمس، ويستمع لقراءته أحد المنشورات الثورية بصوتٍ عال. وقد تسمعه يتساءل: "هو أنا يا واد يا هشام صوّت لمين في انتخابات الرئاسة؟" ويرد ابنه سريعاً: "حمدين صباحي طبعاً يا بابا."
وظنّي أن المدينة لاتبالي بصخب أهلها واختلافهم أو اتفاقهم؛ فغداً يكمُلُ وجه القمر، ومهما صَخَبَ طبلُ الشباب أو تقطّرت سحابات الغاز المسيل أو تناغمت أصوات سارينة مدرعات الأمن الوحشية مع ضربات قلب المدينة، لن ترضى القاهرة الجميلة لشيء أن يؤثر على دقة رسم وجه القمر.
[لقراءة الجزء الأول يمكن الضغط هنا]